من شبهات نولدكه في كتابه (تاريخ القرآن) حول جمع القرآن... هل كان عبد الله بن أبي السرح من كتبة الوحي؟؟ د. محمد السواعده

[size=18]
لقد اتخذ نولدكه من ردّة عبد الله بن أبي السرح -على أنه من كتّاب الوحي- جسراً ليشكك في أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم ونزاهة كتبة الوحي, فيقول:
"ولا بد من أن محمداً منح المقاطع القرآنية شكلها النهائي الذي احتفظت به، من خلال تلاوته إياها من أجل أن تحفظ أو تدون. هذا ما يبدو من القصة التالية التي يرويها معظم المفسرين تعليقا على سورة الأنعام 6: 93. حين أملى محمد مطلع سورة المؤمنون 23 على عبد الله بن أبي سرح الذي كان يستخدمه أحياناً ككاتب للوحي، أصيب هذا بالاندهاش من وصف قدرة الله الخالق فصاح: ( فتبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون: ١٤. فأمره النبي أن يكتبها لأنها هكذا نزلت. يتضح لنا إذاً، أن كلمات عبد الله بدت لمحمد ملائمة فاتخذها في هذا الموضع ارتجالاً"
الرد:

ما استدل به نولدكه على تدخل النبي صلى الله عليه وسلم في مضمون القرآن بما أورده من قصة ابن أبي السرح، فالجواب عنه بما يلي:

أولاً: إن المؤلف يتحدث عن هذه القصة وكأنها حقيقة لا تقبل الشك، ولم يزنها بميزان العقل الذي درج على امتطائه كلما اصطدم بخبر صحيح، ولم يلتفت إلى أنها افتراءات من قبل ابن أبي السرح في فترة ارتداده، لذا فأقول: إن كونه كان من كتّاب الوحي، أمر مشكوك فيه، بل مرفوض، لما يلي:


1- إن روايات القصة مقصورة عليه هو وقت ردته، وليس هناك واقعة حقيقية حدثت، "فقال لهم: إني كنت أصرف محمداً حيث أريد، كان يملي علي: "عزيز حكيم " فأقول: أو عليم حكيم؟ فيقول: " نعم، كل صواب.

وروي في ذلك أنه (لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان أشب الرجلين فقتله وأما مقيس بن صبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ها هنا فقال عكرمة والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره اللهم إن لك علي عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتى محمدا  حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما فجاء فأسلم وأما عبد الله بن سعد بن أبي السرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله  الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي  قال يا رسول الله بايع عبد الله قال فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله فقالوا وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك قال إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين).

قال ابن تيمية بعد أن ذكر قصته: "فوجه الدلالة أن عبد الله بن أبي السرح افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُتَمِّم له الوحي ويكتب له ما يريد فيوافقه عليه وأنه يصرفه حيث شاء، ويغير ما أمره به من الوحي فيُقرُّه على ذلك، وزعم أنه سينزل مثل ما أنزل الله إذ كان قد أوحي إليه في زعمه كما أوحي إلى رسول الله r وهذا الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كتابه والافتراء عليه مما يوجب الريب في نبوته قدر زائد على مجرد الكفر به والردة في الدين وهو من أنواع السب"

ولا يخفى أن الدخول في الإسلام، كان في نظر المشركين جريمة لا تغتفر، فأراد أن يكسب ود المشركين ليسامحوه على جريمته، وهذا افتراض منطقي لأنه كان يخشى أن يقتلوه.

وعندئذ إن صح النقل عنه هو يكون شكله كالآتي: (كان ابن أبي سرح، بعد ارتداده وعودته إلى مكة، يشيع بين المشركين بأنه كان يكتب الوحي للنبي وكان يغير في ألفاظه والنبي يوافقه) فيجب أن تقرأ على لسانه هو، لا على أنها بعض نصوص الدين.

2- إن مدة إسلام ابن أبي سرح قبل ردته كانت قصيرة جداً، فالتراجم تذكر أنه أسلم قبل فتح مكة، يقول ابن عبد البر: "أسلم قبل الفتح، وهاجر وكان يكتب الوحي لرسول الله r، ثم ارتد مشركاً وصار إلى قريش بمكة"( )

وإذا علمنا أنه لم يذكر عنه مشاركته في أحداث ووقائع قبل الفتح، كغزوة الأحزاب وبني المصطلق وفتح خيبر مثلا، تبين لنا أنه أسلم قبل الفتح بقليل، وأنه ارتد سريعاً، فمتى كتب الوحي؟

كما أنه لا يصح الربط بينه وبين قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا او قال أوحي الي ولم يوح إليه شيء) الأنعام: ٩٣. لأن هذه الآية من سورة الأنعام، وهي مكية، لذا نجد السيوطي يستبعد قول بن الحصار "باستثناء تسع آيات نزلت بالمدينة"، لما ورد أنها نزلت جملة في مكة‏، وهناك قول يفيد بأنها نزلت في مسيلمة( ).
أما حكاية سورة "المؤمنون" فغير صحيحة للسبب نفسه، لأن ارتداده كان بالمدينة وهذه السورة –أيضاًْ- مكية( ).
3- ذكر الحافظ العراقي في ألفية السيرة النبوية أسماء كتّاب الوحي المعروفين، فبعد أن أحصاهم عقب بقوله:

وذكروا ثلاثة قد كـتبـوا وارتــد كل منهم وانقلبوا .
ابن أبي سرح مع ابن خطل وآخر أبهم لم يســمى لي .
ولم يعد منهم إلى الدين سوى ابن أبي سرح وباقيهم غوى( ).

فعبارة الحافظ عند ذكر هؤلاء الثلاثة اختلفت عما سبقها، إذ تفيد أنه ليس متأكداً من كونهم كتّاباً للوحي، فنجده يقول: (وذكروا..).

إزاء ما تقدم يظهر جلياً للعيان، أن عبد الله بن أبي سرح ليس من كتّاب الوحي، وأن قصته منسوجة، اختلقها هو وقت أن كان مرتداً، وليس بعد الكفر ذنب.
ورحم الله العلامة القاضي عياض إذ يقول: "إن قلت فما معنى ما روى أن عبد الله بن أبى سرح كان يكتب لرسول الله r ثم ارتد مشركا وصار إلى قريش فقال لهم إنى كنت أصرف محمدا حيث أريد كان يملى على عزيز حكيم...الخ" وبعد أن ذكر القاضي قصة ابن أبي السرح السابقة قال:

إعلم ثبتنا الله وإياك على الحق ولا جعل للشيطان وتلبيسه الحق بالباطل إلينا سبيلا، أن مثل هذه الحكاية أولا لا توقع في قلب مؤمن ريبا، إذ هي حكاية عمن ارتد وكفر بالله، ونحن لا نقبل خبر المسلم المتهم فكيف بكافر افترى هو ومثله على الله ورسوله ما هو أعظم من هذا؟ والعجب لسليم العقل يشغل بمثل هذه الحكاية سره وقد صدرت من عدو كافر مبغض للدين مفتر على الله ورسوله ولم يرد عن أحد من المسلمين ولا ذكر أحد من الصحابة أنه شاهد ما قاله وافتراه على نبي الله، ( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ) النحل: ١٠٥. وما وقع من ذكرها في حديث أنس رضي الله عنه وظاهر حكايتها فليس فيه ما يدل على أنه شاهدها، ولعله حكى ما سمع، وقد علل البزاز حديثه ذلك وقال: رواه ثابت عنه ولم يتابع عليه، ورواه حميد عن أنس قال: وأظن حميدا إنما سمعه من ثابت، قال القاضى أبو الفضل وفقه الله: ولهذا والله أعلم لم يخرج أهل الصحيح حديث ثابت ولا حميد، والصحيح حديث عبد الله بن عزيز بن رفيع عن أنس رضي الله عنه اللذي خرجه أهل الصحة وذكرناه، وليس فيه عن أنس قول شيء من ذلك من قبل نفسه إلا من حكايته عن المرتد النصراني"( )

ثانياً: بالرغم من ذلك سيفترض الباحث صحة ما قيل: من أنه كان أحد كتاب الوحي، ليرد بالآتي:

إن عمل ابن أبي السرح لم يتكرر من أحد سواه, بل هي حادثة لا نظير لها في تاريخ القرآن كله.
ثمّ إنّ النبي r أوقف ابن أبي السرح عن كتابة الوحي بعد ردّته مباشرة, بل أهدر دمه( ).


[size=18]وإنّ ابن أبي السرح لم يكن الكاتب الوحيد للوحي, بل قد بلغ تعداد الكتبة نحو الأربعين ونيفاً كلّهم من خيرة الصحابة, وأعلاهم توثيقاً(( .

كما أن موافقة القرآن لأحد الناس لا يطعن في نزاهة القرآن بحال، وهناك موافقات متعددة للصحابة لم يستشف أحد ممن شهد التنزيل منها خللاً تبليغياً أو عبثاً من جهة الرسول r حاشاه، وذلك كما روي عَنْ أَنَسٍ قَالَ (قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ اللَّهَ فِي ثَلَاثٍ، أَوْ وَافَقَنِي رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْتَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ، قَالَ وَبَلَغَنِي مُعَاتَبَةُ النَّبِيِّ r بَعْضَ نِسَائِهِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ قُلْتُ إِنْ انْتَهَيْتُنَّ أَوْ لَيُبَدِّلَنَّ اللَّهُ رَسُولَهُ r خَيْرًا مِنْكُنَّ حَتَّى أَتَيْتُ إِحْدَى نِسَائِهِ قَالَتْ يَا عُمَرُ أَمَا فِي رَسُولِ اللَّهِ r مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن...) التحريم: ٥

[size=18]والمعول عليه في الأمر قوة إعجاز القرآن الكريم والقصور عن الوصول لمثل تراكيبه أو نظمه.

ثمّ إنّ الكتابة كانت تعدّ عملية توثيقية خوف النسيان فحسب, أما المعول الأوّل عليه بعد حفظ الله عز وجل, كان حفظ الصحابة الذين أوتوا ملكة الحفظ، وقوة الذاكرة كسائر العرب( ).

والسؤال الذي يطرح نفسه أخيراً؛ لو كان ابن أبي سرح قد تأكد من عدم صدق الرسول r، فكيف عاد للإسلام مرة أخرى وتمسك به وقاتل من أجله؟

إنّ هذه القصة التي استغلها أغلب المستشرقين -ونولدكه ليس بدعاً في ذلك، فهو يتبع أقوال من سبقه منهم- ليس فيها في الحقيقة مطعن، لأن تاريخ القرآن الكريم وواقعه يرد هذه المزاعم، فهناك أعداد لا تحصى من البشر يحفظونه ويرددونه تعلماً وتعبداً، منذ لحظة نزوله وحتى يومنا هذا.
وسنأتي إن شاء الله على بعض شبهاته في كتابه هذا في القريب العاجل
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

إعداد الدكتور محمد محمود السواعده/ جامعة الطائف

الله يعطيك العافية يا دكتور